كومبيوترات خارقة لعالم المستقبل
هذه الصورة لكومبيوتر «آي بي أم» الفائق «بلوجين/أل» الذي ظل حتى وقت قريب اسرع كومبيوتر في العالم (كي آر تي)
شغلت الكومبيوترات مكانا مهمّا في حياة الناس والشركات والجامعات ومراكز الأبحاث، نظرا لقدرتها العالية على أداء ملايين العمليات الحسابيّة في ثوان قليلة جدّا، وبدقة متناهية. وتمّ تصنيع أجهزة في غاية التقدّم أطلق عليها اسم "الكومبيوترات الخارقة" Supercomputers لأدائها غير المسبوق. وأصبحت هذه الكومبيوترات الخارقة محورا مهمّا لاجراء الأبحاث وتطوير مجالات الطبّ والهندسة والفيزياء وعلوم الطقس والفلك، بالإضافة إلى محاكاة ظروف معيّنة لا يمكن عملها على الكومبيوترات العاديّة، لتصبح البطل المجهول بين عامّة الناس.
في أحدث تطور لافت للنظر، قامت شركة "آي بي إم" بتطوير أسرع كومبيوتر في العالم في 26 يونيو (حزيران) من هذا العام، تحت اسم "بلو جين/بي" Blue Gene/P، الذي يعد أسرع بـ 100 ألف مرّة من الكومبيوترات الحديثة الموجودة في الأسواق. ويستطيع "بلو جين/بي" القيام بألف تريليون عملية حسابيّة في الثانية الواحدة (التريليون أي الف مليار او مليون مليون). ولو قلنا، افتراضا، أنّ الإنسان يستطيع القيام بعمليّة حسابيّة واحدة في كلّ 3 ثوان، فإنّه سيحتاج إلى 34 مليار يوم، أو 95 مليون سنة من الحساب بشكلّ مستمرّ وبدون توقف للقيام بما يستطيع "بلو جين/بي" أداءه في خلال ثانية واحدة فقط!
* تطبيقات عمليّة تقوم الكومبيوترات الخارقة بتوفير خدماتها للكثير من المجالات العلميّة والعسكريّة، ويتمّ استخدامها عادة لأداء العمليّات التي تتطلب جهدا حسابيّا كبيرا ومكلفا (من الناحية الزمنيّة)، مثل الفيزياء الكميّة الميكانيكيّة والتنبؤ بالطقس وأبحاث المناخ (مثل الاحتباس الحراريّ) وتمثيل الجزيئات الكيميائيّة والبيولوجيّة، والمحاكاة الفيزيائيّة (مثل محاكاة نفق الهواء لطائرة نفاثة، أو انفجار الأسلحة النووية، والأبحاث في الانشطار النووي) وتطوير طرق تشفير حديثة معقدة. وتحتل الجامعات والوكالات العسكريّة ومختبرات الأبحاث العلميّة رأس قائمة الـ "زبائن" الأكثر استخداما لهذه التقنيات.
وتقوم أبحاث الطبّ باستخدام الكومبيوترات الخارقة في محاولة للوصول إلى علاج للأمراض المستعصية في زمننا الحالي، أو تصنيع مركبات حيوية تستطيع خدمة الإنسانيّة. ويمكن استخدامها لمحاكاة تأثير عقاقير معيّنة على الإنسان، عوضا عن إعطاء العقاقير له والمخاطرة بحياته. ويمكن الحصول على بحر من المعلومات اللازمة للكومبيوتر لبدء عمله من قطرة دمّ واحدة لمريض معيّن، وإنتاج حوالي 60 غيغابايت (حوالي 86 قرصا ليزريّا) من المعلومات منها، مثل صور لجميع البروتينات الموجودة في جسمه وتلك المرتبطة بالسرطان الذي يسري في داخله. هذه العمليّة تسمح بالاحتفاظ بـ "بصمة" بيولوجيّة لكلّ مريض (أنواع الأمراض تختلف بين شخص وآخر) والربط بين هذه البصمات للوصول إلى علاج واحد مشترك (يوجد لدى مركز "سيدار-سيناي" الطبيّ كومبيوتر خارق مصنف على أنّ ترتيبه هو 412 من أفضل 500 كومبيوتر خارق في العالم، ويستطيع القيام بالأمور المذكورة). وسيصبح بإمكان هذه الكومبيوترات "التنبؤ" بنسب دقيقة عن إمكانيّة إصابة مريض ما بالسرطان، بل وتحديد تاريخ الإصابة المستقبليّة بشكل غير مسبوق، حسب المعلومات التي استطاع الكومبيوتر الحصول عليها من المريض، ومحاكاة عملها في داخل جسم المريض لعشرات السنين، في مجرّد بضع ثوان. وسيصبح بالإمكان أيضا تصنيع عقاقير خاصّة لكلّ مريض، حسب حالة مرضه وحالة البروتينات والأنسجة في جسمه، الأمر الذي سيخفض من زمن تجربة العقاقير بشكل كبير جدّا. ومن المجالات الأخرى التي تُستخدم فيها الكومبيوترات الخارقة أبحاث الفضاء، حيث تتم دراسة المجرّات البعيدة ونظريّة "الانفجار العظيم" Big Bang التي تؤدي إلى توسع الكون، بالإضافة إلى التفاعلات الشمسيّة والإشعاعات الكونيّة المختلفة وتأثيرها على البيئة والإنسان.
ويمكن استخدام هذه الكومبيوترات في التنبؤ بالظروف المناخية للعالم، وبدقة كبيرة جدّا، حيث يتمّ تغذيتها بكمّ هائل من المعلومات الجويّة، مثل نسب الضغط الجويّ والرطوبة واتجاه وسرعة الرياح ودرجات الحرارة وحالة العواصف حول العالم ونسبة ذوبان الجليد، لتقوم هذه الكومبيوترات بمحاكاة تفاعل جميع هذه العوامل مع بعضها بعضا، وتغيّرها مع مرور الزمن، للحصول على تنبؤات جويّة ذات دقة عالية للفترات القريبة. هذا وتقوم العديد من مراكز الأبحاث بدراسة تأثير الاحتباس الحراريّ الذي تشهده الكرة الأرضيّة حديثا، وما سيترتب عليه من تغييرات مناخيّة وبيئيّة وصحيّة.
وتقوم الكثير من المراكز العسكريّة باستخدام الكومبيوترات الخارقة لمحاكاة عمليّات الحروب المفترضة وتدريب الجنود عليها، بالإضافة إلى تطوير الأسلحة الحديثة، خصوصا النووية والبيولوجيّة منها. ومن البديهيّ ارتباط نتائج دراسات المعاهد الفيزيائيّة والبيولوجيّة والكيميائيّة بهذه الكومبيوترات لاستخدام أحدث التقنيات في هذه المجالات للوصول إلى أحدث الاستراتيجيّات العسكريّة.
* حسابات وبرمجيات تستخدم الكومبيوترات الخارقة إمّا معالجات مصمّمة بشكل خاصّ أو مجموعة كبيرة من المعالجات العاديّة مرتبة بطريقة خاصّة. وتتفوّق الكومبيوترات التي تستخدم معالجات خاصّة عن غيرها بسرعتها الأكبر نظرا لأنّ تصميمها الفريد يسمح لها بأداء أكثر من عملية حسابية في نفس الوقت، وهي تتميّز بوجود تسلسل ذاكرة Memory Hierarch متقن لتغذية المعالج بالمعلومات بشكل مستمرّ، بالإضافة إلى أنّ عمليات كتابة وقراءة المعلومات I/O تتمّ بسرعات عالية جدّا. ولكنّ هذه الكومبيوترات غالبا ما تكون مصمّمة لأداء نوع واحد من العمليات الحسابيّة، وتفشل في أداء الحسابات العامّة.
أمّا الكومبيوترات الخارقة التي تتكوّن من مجموعة كبيرة من المعالجات العاديّة المرتبة بطريقة خاصّة، فإنّها تسمح بصناعة كومبيوتر خارق باستخدام كومبيوترات عاديّة وربطها ببعضها بعضا بواسطة نظام تشغيل واحد أو عدّة أنظمة لتعمل ككومبيوتر واحد متعدد القدرات. ولكنّ هذه المنهجيّة تحتاج إلى وجود برمجيّات متخصصة تستطيع تقسيم العمل على معالجات الكومبيوترات المتعددة واسترجاع المعلومات منها بالترتيب الصحيح، وربط المعلومات الناتجة بطرق معقدة للحصول على النتائج الصحيحة. ويجب التمييز في سياق الكومبيوترات الخارقة بين مصطلحيّ "الحساب وفق القدرة" Capability Computing و"الحساب وفق السعة" Capacity Computing. "الحساب وفق القدرة" هو استخدام أعلى قدرة حسابيّة لحلّ مشكلة حسابيّة في أقصر وقت ممكن، والتي غالبا ما لا تستطيع الكومبيوترات العاديّة حلها (على الأقل خلال فترة حياة المستخدم). أمّا "الحساب وفق السعة"، فهو استخدام قدرات حسابيّة مجدية بالنسبة للتكاليف Cost-Effective لحلّ مشاكل حسابيّة متوسطة التعقيد، أو لحلّ الكثير من المشاكل الحسابيّة الصغيرة، أو لتجهيز المعلومات قبل تغذيتها في الكومبيوترات الخارقة التي تعمل على أنظمة "الحساب وفق القدرة".
وتحتاج الكومبيوترات الخارقة إلى وجود برمجيّات خاصّة تستطيع تقسيم العمل على المعالجات المتعددة بطريقة منظمة وسلسة، مثل واجهات التفاعل البرمجيّة API وبرامج المصدر المفتوح Open Source (مثل "بي ولف" Bewulf و"أوبين موسكس" openMosix) التي تسمح بصنع كومبيوترات خارقة من مجموعة كومبيوترات عاديّة. ويمكن استخدام تقنيات "زيروكونف" ZeroConf لصنع طبقات Clusters من الكومبيوترات لبرامج متخصصة، مثل برنامج "شيك" Shake من صُنع شركة "آبل" Apple.
ويبقى موضوع لغات البرمجة المناسبة للكومبيوترات الخارقة موضوع دراسة مفتوحة في علوم الكومبيوتر، ولكنّ اللغة المفضلة لغاية الآن هي لغة مشتقة من لغة "فورتران"، والتي تستطيع العمل بشكل أسرع من لغات "سي" و"سي++". وساد إصدار خاصّ من نظام التشغيل "يونيكس" مصمّم للكومبيوترات الخارقة بشكل أكبر من معظم أنظمة التشغيل الأخرى الخاصّة، ولكنّ نظام التشغيل المجانيّ مفتوح المصدر "لينوكس" أصبح الأكثر شعبيّة منذ عام 2004، مع حصول أنظمة التشغيل "ويندوز" و"ماك أو إس" على نسب تقلّ عن 5% من أنظمة التشغيل المستخدمة في أفضل 500 كومبيوتر خارق في العالم (في نهاية عام 2006، استطاع "لينوكس" الحصول على نسبة 75%، بينما حصل "يونيكس" على نسبة 18%، وحوالي 1% لـ "ويندوز" و1% لـ "ماك أو إس" و1% لـ "بي إس دي" BSD، و4% لأنظمة تشغيل مشكلة).
ومن الأمثلة على الأنظمة التي تستخدم مجموعة كبيرة من المعالجات العاديّة المرتبة بطريقة خاصّة نظام "فولدنغ@هوم" Folding@Home الذي يقوم بمحاكاة عمليات تركيب البروتينات المعقدة في محاولة لاكتشاف علاج للكثير من الأمراض، مثل السرطان وجنون البقر و"الزهايمر" و"هاننغتون" والكثير غيرها من الأمراض الأخرى، عن طريق استخدام كومبيوترات وأجهزة ألعاب عامّة الناس عبر الإنترنت. واستطاع المشروع الوصول إلى سرعة افتراضيّة تبلغ حوالي 600 تيرافلوب (الفلوب هي وحدة قياس العمليات الحسابيّة الكسرية في الثانية FLoati-point Operations Per second. وتبلغ قدرة الميغافلوب Megaflop الواحد مليون عملية حسابيّة في الثانيّة، وكلّ ألف ميغافلوب هي 1 غيغافلوب Gigaflop، وكلّ ألف غيغافلوب هي 1 تيرافلوب Teraflop، وكلّ ألف تيرافلوب هي 1 بيتافلوب).
وعلى الرغم من أنّ هذه الكومبيوترات "خارقة"، إلا أنّها تواجه بعض التحديات، مثل كميّة الحرارة الكبيرة الناتجة عن عملها، وكميّة الكهرباء الكبيرة التي تستهلكها (كمية الطاقة اللازمة لتشغيل 1 بيتافلوب، من دون حساب الطاقة الكبيرة اللازمة لتبريد هذه الكومبيوترات في الغرفة، هي 2,9 ميغاواط، أي أنّها تكفي لتشغيل 2900 منزل)، بالإضافة إلى عدم قدرتها على نقل المعلومات بين أجزاء الكومبيوتر المختلفة بسرعة تفوق سرعة الضوء (غالبا ما يكون هناك تأخير زمنيّ يتراوح بين 1 إلى 5 ميكروثانية). هذا وتقوم الكومبيوترات الخارقة بإنتاج كميّات كبيرة جدّا من المعلومات في فترات زمنيّة قصيرة، الأمر الذي يتطلب تصاميم خاصّة لنقل المعلومات بين الأجزاء المختلفة وعدم اختناق الممرات الإلكترونيّة، ووجود القدرة على تسجيل هذه المعلومات واسترجاعها بشكل صحيح وفي أقصر زمن ممكن.